عمانوئيل سويدنبورغ رأى الجحيم. قال إن خالقَها قد هندسها على شكل إنسان وكساها جلداً، يسكنُ بشرٌ عراءَ أعضائها وظلماتِ أحشائها. إنّها تُعاش من الداخل، مسخاً حيّاً في جوفِ إنسان آخر. لكل منا جهنّمه الشخصية، بكامل صفاتها الإنسانية وشخوصها، والمتمايزة عن جهنمات غيرنا.
رسمت رندا بالرصاص- ونحتتْ في الطين والبرونز- مخلوقاتٍ قد نراها متجمّدة على تلك العتبة التي "يحجّرها الألم"، عندما تخطو أو تتعثّر بين جحيمين شاسعتين متداخلتين، داخل الجسد وخارجه، في ذهاب وإياب سرّيين. ليست هذه المخلوقات هاربة من الجحيم، إنها قطعة منها، بعضٌ من وجودها؛ ربما تشوّهت عند اقتلاعها من الأعماق، أو ربما شوّهها عناءُ الحفاظ على تماسكها في هذا الوجود العاصف. صِيغت أجسادها لتسكنها العزلة الأخيرة، فهنا تتكدّس عزلات ومخاوف قديمة، ورندا تظهِر لنا ما لا نراه. من نارٍ لا تُرى إلى نيران تجوب العالم حولنا، يلفح اللهبُ الجميع ويساوي بينهم أمام الرعب، فيسفعُ ملامحهم ويصهر أشلاءهم ليوحّدهم الذوبان، أو يفرّقهم ويشتّت بالتهديد شملهم. هذه خصوبةُ الموت وتوالدُ النهايات من بعضها البعض. قد تتراءى لنا هذه المنحوتات كالمولودين أمواتاً، أو بالأحرى كموتى أنجبهم موتى، وسجَنهم موتى آخرون في كابوس خارج الزمن. نحتتْ رندا لحظة سقوطهم من شاهق، حيث يتعالى الشَّعر كاللهب، أو التقطتهم وهم مصلوبون أو متضرّعون أو طفلات يتمسّكن بأذيالِ فساتينِ أمهاتهن المذعورات، أو مغلولون بحبالٍ لا نرى أطرافَها وهي تشدُّ المعاصمَ والكواحلَ والأعناق: قد تكون حبالَ نجاةٍ أو مشانق، أو حبالَ أراجيح أو آبارٍ انتحر فيها شبان لم نعرفهم، أو خيطانَ طائراتٍ ورقية، أو ضفائرَ ميّتاتٍ لا يتوقّف شعرُهنّ عن النموّ جُدلتْ طوالاً متينة كالأنشوطات. قد نرى في هذه الكائنات مجهولين ارتموا من أعلى برج وقضوا ثم نسيناهم على الفور، أو تهاووا بعد أن طيّرتهم قذيفة، أو اختنقوا أثناء نومهم، أو سُحِقوا ودِيست ملامحُهم بعجلاتٍ ثقيلةٍ أدهى من عبور الوقت، أو لعلهم غرقى نُبشوا كالجِرار من سفن قديمة في قاع البحر، وما أعنف المنقذين حين يُشدُّ الغريق من شَعره، ثم يُنتشل مفارقاً حياتَه ليمدَّد تحت عيون الأحياء.
هنا، في هذا المعرض، بعد تيهِ الأصابع في الطين، قد نفكّر بما يتبقّى بعد الحرائق والآلام. ما أشبه الاحتضار بالرقص. الألم ينحتُ الملامح، ويدفعُ أيضاً إلى خلق البهلوانات والطيران. إنه يُغمض العيون التي لم يعصبْها الخوف. أمامنا، في هذه الوجوه، تختلط الأزمنةُ والأعمار، وتمتزج الطفولةُ بالشيخوخة والحنانُ بالمرض؛ الأنوف مجدوعة، والأفواه لا تزال مفتوحة بعد انتهاء الصراخ الذي لم نسمعه.
الأقدار تُعاش ولا تفسَّر. الآن، وقد انفضَّ جمهورُ الألم السوريّ وطالَ العذاب وصبرتِ الأرواحُ على ما لا يُطاق، يدُ النحّاتة تحرّر الموتى، فنرى الجرحَ القديم لمادة التكوين الأولى: ما أبصرَتْه الأصابعُ، داخل دوامات الصور المتوارية في الطين، تلامسه عيوننا بعد خروج المنحوتات من وسط النيران. التماثيل شُويت. سوريا ذُبحت. رجاء القانطين أن يشقَّ لها كلُّ هذا الدم آفاقاً بعدد موتاها؛ لعلَّ الأيدي، التي ستخلق من تراب هذا الجرح الهائل حياةً جديدة، تستردُّ، في دورة الميلاد والموت، فجرَ الخليقة الذي ترويه الأساطير: يومَ ذُبح كبشٌ عظيم، وجُبل بدمهِ أديمُ الأرض ليُخلق إنسانٌ أوّل. أعراس بلاد الشام تستعيد هذا الطقس، حين تصبغ يد العروس بالحنّاء، كأنه صلصال البدايات المعجون بالدم، إذ هناك ولادة يرتقبها المنتظرون والحيارى والمعذَّبون، ورجاؤهم معقود على قوّة الحياة التي تتآخى مع الموت وتعيش معه.
* كتب هذه النصّ لمعرض رندا مداح، الفنانة السورية من الجولان المحتل. يفتتح معرض منحوتاتها تحت عنوان "ربطة شعر" في الثالث من أيلول، في غاليري وَن، رام الله.